2-محاولة التأقلم ... :
كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية بعد الظهر ، عندما دلفت (هدى) بصحبه (رزان) إلى غرفة صغيرة ، امتلأت بأرفف الكتب المكدسة بمختلف الأنواع و الأشكال من الكتب ، و على اليسار ، استقر جهاز حاسب آلي و بجانبه ارتفعت لوحة إعلانات كبيرة و عدد من النوافذ الكبيرة التي تدخل الكثير من الهواء الرطب المنعش ، و استقرت طاولة كبيرة في الوسط ، جلس عليها كلا من (هاني) و (يوسف)،و قالت (هدى) مقدمة المكان :
-هذا هو مقرنا السري...المكتبة القديمة!
ارتفع حاجبا (رزان) في دهشة و قالت :
-مكتبة قديمة؟!
أومأت (هدى) برأسها و قالت :
-أجل ، مكتبة قديمة لم تعد تستعمل ، لأن المكتبة الجديدة في الطابق الثاني قد افتتحت منذ فترة ليست بالطويلة و قد امتلأت بالكثير و الكثير من الكتب ، أما هذه ، فقد سمحت لنا إدارة المدرسة ، بالحصول عليها ، كمكافأة على مجهودنا القوي في الدراسة.
اتسعت ابتسامة (رزان) و قالت بهدوء:
-إنها غرفة جميلة و مميزة ...
ثم التفتت إلى (هدى) و قالت :
-لقد أحسنتم اختيارها بالفعل كمقر لكم.
زفر (هاني) في توتر و سحب (هدى) إلى ركن بعيد هي و (يوسف) و قال:
-لمَ تفاتحينها في كل ما هو لنا ؟! نحن حتى لم نتأكد من صدق نواياها.
-و لكن الفتاة لطيفة و ليس لديها أي نية سيئة.
اعترض (يوسف):
-و ما أدراكِ بهذا ؟! نحن حتى لا نعرف من أين أتت؟!
حدجته (هدى) بنظرة نارية و قالت:
-كنا سنعرف ذلك ، لولا تدخل (رندا) الغبية في تلك اللحظة.
كاد (يوسف) يصيح مدافعاً عنها لولا أن سمعوا صوت (رزان) يأتي من خلفهم و هو يقول :
-إذا كنت أسبب لكم الإزعاج و المشكلات بينكم ، فسأرحل حالاً و آسفة على الإزعاج.
بدا (يوسف) سعيداً بهذا القرار ، بينما عقد (هاني) حاجبيه مفكراً و اندفعت (هدى) نحو (رزان) قائلة:
-كلا ، كلا ! أنتِ لا تسببين لنا أي إزعاج ، بالله عليكِ، كيف تفكرين في هذا ؟! أنتِ مرحب بكِ دائماً هنا.
عكست عينا (رزان) تأثراً كبيراً بالحزن و هي تقول بصوت مليء بالحزن :
-لا أظن أن الجميع يظن ذلك هنا.
لم يعلم أحد من ثلاثتهم ، لمَ شعروا بالعاطفة الكبيرة نحوها و شعورهم بالذنب تجاهها ، و اندفعوا نحوها يحاولون إيقافها و هي تغادر المكان و جلسوا يبررون اجتماعهم بأنه أمر طاريء و لا يتعلق بها بأي حال من الأحوال ، و بسبب إلحاحهم ، وافقت (رزان) على البقاء معهم قليلاً...
* * *
كانت الشمس مائلة إلى المغيب ، عندما إتخذ (يوسف) طريقه إلى المنزل ، و بدأ يفكر فيما حدث طوال يومه بالمدرسة ، و قفز ذهنه بلا وعي إلى (رزان) ، تذكر كيف قدمت نفسها إليهم بكلمات مقتضبة و لكن كان لها مفعول السحر في موقف الصف كله ، و كيف تصرف تجاهها عندما قدمتها (هدى) له هو و (هاني) ، و كيف شعر حينما تحدثت معه مباشرةً للمرة الأولى ، و عندما كانت على وشك أن تبكي بعدما رفضوا وجودها معهم في المكتبة القديمة ، و لإحساس ما... شعر إنه أخطأ كثيراً في حقها و قرر أن يعتذر منها في أول فرصة يراها فيها.
و فجأة، توقف في مكانه و قد علت على وجهه علامات الدهشة و الصدمة و شعر بكيانه كله يتزلزل ، فقد كانت (رزان) تسير أمامه بنفس خطواتها الهادئة الواثقة و تنظر تارةً للشمس المائلة للمغيب و تارةً أخرى للطريق أمامها ، و فكر (يوسف) كثيراً في أن يتجاهلها ، و لكنه أقسم لنفسه أن يعتذر لها ، و تردد كثيراً قبل أن يتخذ طريقه إليها و يقول بصوت حاول جعله مرحاً بقدر الإمكان :
- هاااي ، (رزان) !
التفتت إليه (رزان) بهدوء و تأملته للحظة ثم رفعت حاجبيها و خفضتهما مرة أخرى و قالت بهدوء:
-أهلاً يا (يوسف).
ثم تابعت طريقها بهدوء و إن كانت خطواتها بطيئة و كأنها تدعوه لملاحقتها ، و قد استجاب ...
و بسرعة لحق بها ، و سار إلى جوارها بضع لحظات تأملها فيها ، ثم قال بهدوء:
- آسف...لقد كنت مخطئاً في حقكِ اليوم كثيراً.
بدت له لهجتها ساخرة و هي تجيب :
-جيد إنك عرفت قبل فوات الأوان.
كانت أقصى أمنياته في تلك اللحظات ، هي صفعها على وجهها ، و لكنه تمالك نفسه و قال بهدوء مغيراً دفة الحديث :
-أيقع منزلكِ بالقرب من هنا؟!
-أجل.
-أين؟!
-قريب من هنا ، بعد حوالي 10 دقائق سير منذ لحقت بي.
-أها ، أنا أيضاً منزلي قريب من هنا ، 8 دقائق سير منذ وجدتكِ ...
صمت قليلاً ثم استطرد ساخراً:
-... و لكن إذا كنا نسير بسرعة الإنسان الطبيعي و ليس بسرعة السلحفاة.
بدت له (رزان) و كأنها تبتسم و أجابته بهدوء دون أن ترفع عينيها عن الطريق:
-إذن ، فقد لاحظت إنني أسير ببطء...
ثم توقفت عن السير و توقف هو بدوره و استدارت لتواجهه قائلةً بصوت يدمج ما بين الغضب و الهدوء :
-... لكي أمنحك فرصة لتتحدث معي.
كانت عيناها تحملان صرامة و صراحة قويتان ، جعلتا (يوسف) يتوتر و يتصبب عرقاً رغم انخفاض درجة حرارة الطقس قليلاً..و حدق في وجهها للحظات ، و شعرت هي بتوتره ، فاستدركت قائلة بمرحً:
-هيا بنا ، ستتأخر...
ثم انطلقت تسير بسرعة و ظل (يوسف) جامداً بضع لحظات ، ثم تبعها و هو يطرح على نفسه ألف سؤال و لم يجد جواباً واحداً شافياً له...
توقفت (رزان) عند إحدى الفيلات و أشارت إليها قائلةً:
-هذا منزلك ، صحيح ؟!
حدق (يوسف) في المنزل بضع لحظات ثم التفت إليها قائلاً:
-كيف...كيف عرفتِ ذلك ؟
-لقد قلت إنه يبعد عنا بثماني دقائق سير من قبل ، صحيح ؟!
حدق (يوسف) في وجهها و سأل نفسه قائلاً:
-هل كانت تحصي الدقائق منذ قابلتها ؟!
و قبل أن تلوح له (رزان) مودعة ، أوقفها قائلاً:
- انتظري، سأوصلكِ إلى منزلكِ أولاً.
شعرت بالدهشة قليلاً ثم ابتسمت بهدوء و قالت:
-شكراً لك.
* * *
لم يشعر (يوسف) أيضاً هذه المرة بمرور الوقت ، فلقد بدت (رزان) مرحة جداً ، و أخذت تتكلم عن نفسها أمامه و هو أيضاً شعر بالكثير من الراحة مع أسلوبها الجديد هذا ، فقد كانت تضحك و تمرح و كأن لا شيء قد دار بينهما منذ قليل .. و حين توقفت (رزان) عند منزلها ، التفتت إليه و قالت:
-شكراً جزيلاً لك يا (يوسف)...أراك لاحقاً.
ثم استدارت و انطلقت نحو المنزل ، فناداها قائلاً:
-رزان !
عادت تستدير إليه و قالت :
-ماذا ؟
-هل سأراكِ غداً في المدرسة ؟
ابتسمت بهدوء و قالت :
-أجل ، تصبح على خير .
و أغلقت الباب خلفها لتمنعه من إلقاء أية أسئلة أخرى و هو أيضاً ، غادر بدون إضافة كلمة واحدة.