في مكتبٍ واسع , كان يقف أمام الحائط مـُخفياً يديه في جيبي
بنطاله الأسود بعد أن فتح أزارير سترته الأنيقة ,
وقد بدا مأخوذاً بما يشاهدهـ ,
منسجم تماماً في عالمٍ آخر ..
فقد مال برأسه بإتجاهـ اليمين تدريجياً حتى أوشك أن يـُلامس كتفه ,
لكنه سريعاً تدارك نفسه وهو يعدله ويقف بثبات ينظر أمامه ..
بينما قال من خلفه :
- سيدي , لقد حان الوقت ..
***
دخل قاعة المحاضرات حيث تمت دعوته لإلقاء كلمة ,
كان هناك أكثر من 100 طالب وطالبة ينتظرونه بشغف ,
حاصرته أعين الجميع بإهتمامٍ واضح ,
كما أن مظهرهـ الجذّاب نال إعجاب الفتيات اللاتي لم ترمش أعينهن ,
جال بعينيه مع إبتسامةٍ هادئة تتفحص الوجوهـ ,
قبل أن يـُلقي بكلمات مفاجئة وقد تلاشت إبتسامته تماماً
وحلـّت نبرة قاسية مكانها :
- أنتم لا تمتلكون عائلة ! إذاً لا يمكنكم النجاح ,
أنتم لا تمتلكون الكثير من المال ! عليكم إذاً قضاء حياتكم بين طيـّات الفقر ..
و بقي صامتاً للحظات مراقباً وجوهـ الطلاب الذين صدمهم حديثه ...
محاولاً مقاومة رغبة الغوص في كومة ذكريات تسكن أكبر زوايا عقله ,
ذكريات طفولته ,
قبل 25 سنة بالتمام ..
*
*
*
بصوته القوي دخل بيته الصغير منادياً :
- عزيزتي , أين أنتِ ؟!
من بعيد أتاهـ صوتها مـُرهَقاً :
- هنا هنا , مع هؤلاء الأوغاد , تعال وساعدني في تحميمهم بسرعة ..
أسرع من خطواته مـُتمتماً لمن بين يديه :
- هل تريد أن ترى إخوتك بمشهدٍ أولٍ فضيع ؟! ...
أطلّ عليها ليراها تجلس على كرسيٍ خشبي وسط الحمام ,
وأمامها حوض صغير ممتلئ بالماء الدافئ ,
وسط ذلك الحوض يجلس الوغدان كما دعتهما ,
يلعبان بشغب مـُتجنبين محاولاتها الجادة لدعكهما بالصابون ..
إبتسم وهو يقترب أكثر ثم وضع طفلاً آخر داخل الحوض ليفيض الماء
للخارج وقال بمرح يتحدث للطفلين داخل الحوض :
- رايان , ستيفن , رحّبا بـ أخيكم الجديد تومي ..
ونظر لزوجته التي تجمدت ملامح وجهها وبدت غير راضية
وقال بإبتسامةٍ حانية :
- يبدو أن ماما متعبة جداً , بابا سيـُحممكم يا صغار ..
من خارج الحمام كانت الأم تراقب عبثه الطفولي مع الصغار الثلاثة ,
تشعر ببعض الغضب لـ تبنـّيه طفلاً ثالثاً رغم حالته المادية الغير جيدة ,
لكن رؤيته بهذه السعادة , ورؤية الأطفال مبتهجين بعثرت غضبها
ولم تملك سيطرةً على إبتسامتها التي بدأت بالإتساع شيئاً فـ شيئاً ...
*
*
*
عاد لواقعه مع تعالي همهمات الطلاب بعد كلامه السابق
و أردف قائلاً وقد تحصـّل على ردّة الفعل المطلوبة :
- أنا أمزح معكم فقط ,
ذلك الهراء قبل قليل لا أساس له من الصحة ..
ثم أدار رأسه ينظر لمرافقه الذي دخل يحمل معه صورةً و علـّقها أمام الطلاب
الذين علت الدهشة وجوههم ثم قال بإبتسامةٍ رضى :
- حتى لو تبنـّاكم عجوز فقير مع قبيلة من الأطفال ,
وتشاركتم حوض إستحمام بلاستيكي صغير ,
وسرير مهترء لا يمتلك قواعد إرتكاز ,
فـأنتم تستطيعون الإرتقاء للأعلى متى ما عزمتم على ذلك ,
الحياة الجيدة ليست حصراً لأحد
و لا ترتبط بإسم عائلةٍ معينة ,
لا شيء يمكنه إيقاف الطموح يا رفاق ..
لا شيء يوقفه ..
خرج بعد إنتهاء كلمته وتبعه مرافقه حاملاً الصورة ,
ثم ألقى عليه سؤالاً فضولياً :
- سيد رايان , مالذي تعنيه بكلماتك قبل قليل ؟!
إستدار رايان فجأة وأخذ اللوحة منه وقال بإبتسامةٍ واسعة :
- أعني حياتي بكل تفاصيلها ..
وركـّز نظرهـ على اللوحة وهو يـُتمتم :
- إنها ماضي رايان يا رجـُل ..
أمنيات تحققت
وأخرى تتوسد مقاعد الإنتظار
تنتظر يومها الذي ستتحقق فيه ..
إنتهت ....
الموضوع الأصلي :
لا شيء يوقفه ... مشاركة || الكاتب :
Miss HE || المصدر :
منتديات أنيدرا