لَم تنِتِبه مارلِين لـ صُوت البابِ
يُفَتحُ مُعلِناً وصُولَ مايْك إلَّا حيَن هَتف :
- مارِلِين, أنـا أحـ ..!
أرَخى يدِيه إلَى الأسَفِل حيَن رآها
قَد أنكسَت رأسَها إلَى الخلِف وأغمَضت عينيَها بألَم,
مضَى نحُوَها هرَع بقلِقه وأمسَك يدَها قائِلاً :
- مارلِين, عزيْزِتي مابكِ ؟!
ما للّذِي حصـل ؟!
رمَت مارِلين برأسِها فُوقَ قدمِي مايْك
الجالِس بجانِبها, لَم تستِطع الصُّموَد أكثَر !
بكَت كثيْراً وأخَذت تُردِّدُ بلا وَعيْ :
- مايْك, أرجُوك سامِحني, أنا حقَّاً أحبُّك
أنا لا أستِطيُع ترَكَك .. ولا أريُد ذلِكَ,
سـآمِحني .. أنا آسِفَة
ولَم يُوقِفها عَن تكرارِ
الكلِمةِ الأخيَرةِ سوَى مايْك الّذِي ربَت علَى رأسِها
وأخَذ يقُول بتعاطُفٍ شدِيْد :
- مارِلين, مابكِ ؟! لِمَا تقُولَين هذَا
الكلام ؟!, أنا لسُت غاضِباً منكِ لـ أسامِحَكِ مالّذِي حَدث
هكَذا فجأةً ؟!
لكِنَّ مارِلين الِّتي لَم تتوقَّف
عَن البُكاءِ كانَت قَد دفَعت بمايْك إلَى أنْ يُعانِقَ
وُجنَتِيها ويُكفِكفَ دمُوَعها قائِلاً :
- مالّلِّذي حَصل ؟! ألَن تُخبريَنِي ؟!
أنا آسامِحُكِ أيَّا كانَ الأمرُ فأنا مديٌن لكِ بذِلك!,
ولكِنَّ مايْك لَم يكُن يُخفِّفُ مِن حُزِن
مارِليَن كما كانَ يظُنَّ بَل كانَ يُغرِسُ الكثيَر مِن
الأشواكِ بكلِماِتِه , فمرَّ وقتٌ طَويْلُ قبَل أنْ تتمالَك مارِلين
نفسَها أو شيْئاً مِن ذاِتها إذْ توقَّفَت عَن البُكاءِ , وَ اعتَذرَت
عَن أنَّها لا تعلُم لِمَ احتاجَت لقُولِ ذلِك .
ثُمَّ غَدت تلِكَ الأمسيةُ مُختِلفةً إذْ ,
كسَى مايْك قلقٌ وَ حزنٌ علَى مارلِين الِّتي لازَمها
الأسَـى, وباتَتْ تنُظر إليه بحُزنٍ حتَّى وُهَو يحُاولُ إسعادَها
بعَد أنْ
أخَذ على عاتقِه إعدادَ العَشاء وَ تلطَيْف الجوِّ بأحاديَث
كثيْرٍةٍ طويْلةٍ اقتَسمَت أجزاءَاً مِنها مَعه, وراحَت تحاولُ
رسَم ابتساماتٍ باهتةٍ بيَن دمُوِعها, بيَن الفنيةِ والأخرَى .
انَتهت بهِما تلَك الأمسيةُ إلَى
اصطِحابِ كُوبيَنِ مِن الشّايِ, نحُوَ سطِح المنزلِ,
الّذِي كانَ صغيْراً لطيَّفاً داعَبَ رُوَحيِهما بنسماتٍ عليْلةٍ يصُحبَها
طقُس ذلِكَ اليُومِ الجميْل, وقَفت مارلِين تتأمُّل الحيَّ
السَّكِنيَّ وقَد لاحَت لها البيُوت المُتجاوَرةُ مُتشابِهةُ الشِّكلِ كـ لُوحةٍ جميْلَة,
نظَرت إلَى ما خلفهُ مِن أضواءٍ المدينةِ اللّيْليَّةِ
الِّتي التمَتعت كأنَّما ترسُم صُورةً لـ بساطٍ أسوَدٍ مزيِّنٍ بنجُومٍ ذهبيَّةٍ
جمالُها يحِملُ لمَحة مِن الحُزْن!
قطَّبَت حاجبيَها, تنَّهَدت بعُمقٍ وأنسَكت رأَسَها
وهِيَ تتَّكِيءُ على الحائِط القصيْرِ أمامَها, إلَّا أنَّ
يدَ مايْك اِّلتِي طوقَّتها حملَتها علَى
النَّظرِ إلَى وجهِه بابتِسامةٍ
باهَتةٍ ثُمَّ ما لبِثَت أنْ نظَرت
إلَى ما أمامَها وبدَأت الحديْثَ أخيْراً :
- مايْك؟!
قالَتها علَّ نُطقَ اسمِه يُساعِدُها
فِي الإفصَاحِ عَن المزيد , وقَد أتى ذلِك بثمارِهـ إذْ ردَّدَت :
- هَل تذُكرهَا ؟!, المرَّة الأولَى الِّتي
قُلَت لِي فِيها بأنَّك تُحبُّنِي ؟!
ابتسَم مايْك ثُمَّ قالَ وقَد أنكسَ رأسُه بسعادَة :
- هههـ .. أجَل, لَقد بدُوت
مُغفَّلاً جدَّاً !, فقَد كُنت مُرتبِكاً كثيْراً !
- علَى العَكس بدُوَت رائِعاً
فقَد شعرُت بأنَّنِي محظُوَظةٌ للغايَة, فِي الواقِع
كدّتُ أطيُر فرحَاً إلَّا أنَّ صدَمة
المُفاجئةِ مَنعتني مِن ذلِك
قالَتها بابتِسامةٍ حالِمةٍ,
وهِيَ تسبُح فِي بحرٍ مِن الَّذِكرياتِ الورديَّة
السَّعيَدة, ثُمّ مالبِثَت أن التفَت إلَى مايْك وردَّدَت :
- عدِني بشيءٍ واحٍد مايْك ؟!
- ما هُوَ ؟!
أمسَكت بكفِّه وضَغطَت بقوَّةٍ ثُمَّ قالَت :
- دعِني أكُن أنانيَّةً, وأطلُب إليَكَ
ألَّا تكرَهِني, حتَّى لُو خرَجُت مِن قلِبك !,
عدِني بذِلك ؟!
قالَتها برجاءٍ شديْد,
ابتسَم مايْك وُهَو يُلامِسُ وَجنتها ويهِتف :
- أنا لَن أكرَهكِ أبداً, وإنْ
كان علَى أحدٍ أنْ يقطَع هذَا الوعَد فهُوَ أنتِ ؟!
تساءَلت بقُولِها : أنا ؟!
لـ ينُظرَ مايْك إلا ما أمامُه ويُنِكسَ
رأسُه قائِلاً بـ أسَف :
- فأنا مَن جرُحتكِ كثيْراً,
وأنت مِن تنازلِت لتستمرَّ علاقتُنا !
صَمتت مارلِين, وتاهَت فِي درُوبِ
تلَك المشاعِر المُختلِطَةِ بداخِلها, لِم تملِك أيَّ
تفسيْرٍ لكمِّ الحُزِن والأسَى وَ الحُبِّ والشَّوقِ والحنيْنِ الّذِي
تتوشَّحه الآن, وكيَف اجتَمع هكذا
في نفِسها وعاثَ بقلِبها ألماً ؟!
هَل هِيَ آخرِ مرَّةٍ ترَى فِيها مايْك ؟!,
أجَل إنَّها كذلِك !, تعِرفُ جيِّداً هذِه الإجابَة ! لكِنَّها لا تُرِيدُها
إنَّها حقيْقةٌ مؤلِمَة, وَ واقِعٌ حزيْنٌ ذُو صدىً مؤلِم !
لَم تُعد تدرِي ماذَا تصْنَع ؟!
لِمَ آنتابَتها رغبةٌ فِي أن تفرِدَ جناحيْها وتطيْرَ بعيْداً
بَل وتعُوَد إلَى الماضِي بريْشةٍ سحريَّةٍ
تمُحو مايْك مِن قلِبها وتمُحوها مِن قلِبه !.
تأخُذ كُلَّ تلِكَ الَّذِكرياتِ فِي صندُوقٍ يُدفَن
فِي مكانٍ لا تعلُمه, تعُود إلَى حيُث كانَت شابَّةً طمُوحةً
شغفُها الوحِيدُ افتَتاحُ مقهَىً خاصْ بِّها, وإدارُته بنجاح !
ولـ أوَّلِ مرَّةٍ فِي حياتِها, شعَرت مارلِين أنَّ
الأحلاَم ضريبةٌ لـ الحبِّ إذْ يأخُذَها معُه أحياناً كثيْرةً
ويُغيَّرُهـا.
شعَرت بأنَّ المرَء أحياناً
يكُوَنُ أفضَل حالاً قبْلَ أن يُحبَّ, وأنَّ هُناك
سعادةً فِي انْ تتُوقَ إلَى الحبِّ أكثَر مِن أنْ تعِيشُه وتُكابِد
فِي دفِع قائِمة ضرائِبه .
احتضَنت مارلِين مايْك, عانقُته طُويلاً
كما لُو لَم تكُن ستراهُ أبداً بعَد الآن !,
قرأتَ ملامِحُه كما لُو كانَت سـ تحتفِظُ بِها ذَكرىً لفترةٍ طويْلَة.
فارقُته ببُطءٍ شديْدِ, ثُمَّ انطلَقت بسيَّارِتها حيُث
تعِدُ نفَسها بصباح صاخِب. لَن تعيَش لحظاتِ صخبِه كُلّها بَل
ستوِّكُلها لـ آلفرِيد فقَد حانَ الوقُت لـ تُزيَح العبَءَ الثَّقيل
وَ ترُكَن إلَى زاويةٍ تبكِي فِيها طويْلاً ريْثما يُداوِي الزُّمن جُرَح
تلَك التَّجربةِ فِيها.
***
صبَاح اليُومِ التَّالِي,
وبَعد كفْكفَت مارلِين دُموَعها وَ دفَنت تردُّدَها خطَت
خُطواتٍ بطيْئةٍ نحُوَ طاولةٍ لـ شخصيَن فِي مقهىً متواضٍع بدآ
فيه الَف كما لَم يبدُو مِن قبْل,
أكثَر قلقَاً وترقًّباً إذْ وقَف حالمَا
وصَلت وابتَعد عَن الرَّسمِية تماماً حيَن هَتف :
- ماذَا حصَل ؟! هَل أنتِ بخيْر ؟!
هَل لاحَظ مايْك شيْئاً ؟!
نفَت كُلَّ ذلِكَ بإشارةٍ مِن رأسِها
فقَط, ثُمَّ سَحبت كرسّيَها وجلَست فُوقه وبلا أيِّ مُقدِّماتٍ راحت
تتعامُل مَع الفرِيد بـ بُطءِ يُعاِكسُ ترقُّبَه واندفاعُه :
- إذَن , هَل وجدِّت شيْئاً ؟!
أومأت برأسِها أخرَجت المُغلَّف,
مدَّتُه لـ آلفرِيد, لاحَظ ارتجافةً سرَت فِي يدِها وَ تردُّداً
تجلَّى فِي ضغطِها علَى المُغلَّف بقوِّة سحبُه الأخيُر بُلطفٍ فلَم يُرِد
أنْ يبدُوَ كما لُو كان ينتزِعُه مِنها,
أخذُه ونَظر إلِيها بتعاطُفٍ شديْد,
كأنُّه يأخُذ مِنها شيْئاً يخُصَّها, ردَّدَ كلِماتٍ
تُشِبهُ الأسَف :
- شُكراً لكِ آنسَة مارلِين, أنا حقَّاً مدِينٌ لكِ
لا أعرِفُ كيَف أوفِي حقَّكِ ؟!, فأنِت جازفِت بالكثيْرِ مِن أجلِ
هذَا الدِّليْل, وإنِّي لـ أقدِّرُ ذلِكَ بشدَّة, حقَّاً .. أنا اعتِذرُ
عَن أيِّة متاعِبَ تسببَّتُ بِها!
ثُمَّ قال بتردُّدٍ :
- هلْ يُوَجُد شيءٌ أساعِدُكِ بهِ ؟!
ثُمَّ استَطرَد إلَى جُملةٍ أخرَى
كمَن انتبَه لوجوبِ ذكرِها للتَّو :
- رُغَم أنَّنِي أؤِّكُد لِك بأنُّه لُو
طالَتكِ شكُوك مايْك فأنا سـ أحميْكِ, ولَن
أتواَن أبداً عَن فعِل ذلِك .
لكِنَّ مارلِين أجَهشَت بالبُكاء,
وضَع الفرِيد المُغلَّف جانِباً أنكَس رأسُه وصَمت!.
شَعر بأنُّ علِيه أنْ يُنصِت لـ بُكاءِها الِّذِي حمَل رسالةً
مفادُها أنَّ هذَا الفَعل مؤلِمٌ لـ أبعِد الحدُوِد بالنَّسبةِ لها,
شعَر بأنُّه يدِيُن لها بذِلك, بـ أنْ يعرِف مدَى الألِم
الّذِي خلَّفتُه مساعَدتها لهُ !.
ردَّدَ حيَن لامَس انخفاَض نبرَة بُكاءها :
- آنسَة مارلِين, لِمَا فعلِت ذلِكَ
إنْ كُانَ مؤلِماً بهَذا القَدر ؟!
لَم يكُن سؤالُه لها, جهلاً بالإجابةِ
ولكِنَّ الفرِيد شابٌّ يُدرِكُ حاجَة النَّفِس البشرّيةِ لـ تبرِير
أفعالِها فِي المواقِف العصيْبةِ كهذِه,
إذْ تحْتاجُ لـ أنْ تفِضَي
بدوافِعَك حتَّى فِي أحلِك الظَّرُوف لـ تنفِض غُبارَ تأنِيب الضَّمِير
الّذِي يُعلُو قلَبك !.
فكاَن لذِلكَ السؤالِ أثرُه إذْ
تمالَكت مارلِين نفسَها ومسَحت عيَنيَها بمنديلٍ تناولُته
مِن طاولِتها الصَّغيَرة , وشَعرت تقُول :
- كانَ عليَّ إنقاذُه إنُّه غارقٌ تماماً,
فِي سوادِ ذلِكَ العالَم, عليَّ فعُل ذلَك, لا أستِطيُع تركَهُ
والتَّغاضِي عَن ذلِك .. لا أستِطيُع التَّصرُف كأنَّ لُو أنَّ شيْئاً
لَم يكُن!. أنا لَم أقِصد إذائُه أبداً .
كانَت دُموِعها تنِسكُب تارةً,
وَ تنِطفيءُ تارةً أخرَى بيَن كلِماتِها .
لذآ توَّلى آلفرِيد زمام الحدِيثِ بابِتسامةٍ عطُوفَة :
- أتعلَمِينَ آنسَة مارلِين, أنتِ تُشبِهيَن
شخْصاً أعرِفُه !
رفَعت رأسَها مُتساءِلةً ,
لكِنَّ آلفرِيد رسَم ابتسامَةً حزيَنةً تُناسُب
رأسُه المُنكَس :
- آسْمُه ريُو برآيْس .. كآنَ يُحآولُ
آنقآذَ شخْصٍ عزيْزٍ عليْهِ بذآتِ الطّريْقَةِ الَّتِي
تنْتهِجيَن فيْهآ آنقآذَكِ لـ مآيْك !, شخصٌ لا يتوانَ
عَن التَّضحِيةِ بحياتِه لـ أجلِ الآخريَن
قالَ الجُملَة الأخيَرة ببُطءٍ,
تاركَاً لمارِليَن أنْ تبِتسَم بحُزنٍ وترُدِّد بسُخريَة :
- هه .. هكَذا إذَن, يُوَجد
مَن يَنِتهُج ذاتَ طريْقتِي فِي هذا العالَم !
لَم يشأ الفرِيد أنْ يقُولَ لها
أنَّ هَذا الشَّخصَ لا وُجوَد لهُ الآن لئلَّا يُضفِيَ
المزيَد مِن الحُزِن فِي جوِّ مُعتمٍ لا يحتِملُ العَتمة الطَّويَلة,
لذآ سحَبت مارلِين نفسها فِيمَ يُشِبُه الوداعَ الهادِيءَ تاركةً
لـ آلفرِيد تصفُّحَ المُغلَّفِ بشكلٍ سريْعٍ
ثُمَّ الوقُوفَ المُصاحِبَ لحديْثِه لذآتِه :
أظُنُّ أنَّ نهايَة المُهمَّةِ أصبَحت وشيْكةً
جدَّاً, ولكِن عليَّ لقاءُ شخصٍ مَّا أولاً !
قالَها وتنّهدَ بُعمقٍ,
راجيَاً أنْ يكُوَن هُناك مُتسَّعٌ مِن الوَقت !.
وكانَ هُناك فعلاً مُتَّسعٌ مِن
الوقَت, إذْ آنتَهى مِن لقاءِهـ ثُمَّ مضَى نحُوَ
مكَتبِ الشُّرطَةِ وَ هُناك دارَت بيَنُه وبينَ أصدقاءِه المُقرَّبيَن
عمليُّة اجتماعٍ صغيْرٍ لـ فكِّ رمُوزِ المُغلَّفِ, وصُولاً
إلَى مخازِن المُخدِّرات الِّتي انطلَقت
نحُوَها سيَّاراتُ الشُّرطَةِ استعداداً
لـ حملةِ مِن الاعِتقالاتِ كاَنت مِن نصيْبِ العدَيد مِن العامِليَن هُناك.
وكان ذلِك ختامَ مساءِ ذلِكَ اليُومِ
الحافِل بالكثيْر .
***
وفِي تمامِ العاشَرة,
كانَ مايْك قَد جُنَّ جنُوَنه فِي مكتبِه يبحُث عَن
ذلِكَ المُغلِّفَ استعداداً للتّخلًّصِ مِنهُ قبَل رحيْلهِ, إذْ أنُّ
خبَر مُداهَمِة الشُّرطَةِ لَم يُعلَن لهُ إلَّا قبَل نصِف ساعة !.
قلَب مكتبُه رأسَاً علَى عقِب,
زفَر وصرَخ وركَل كثيْراً مِن الأشياءِ مِن حُولِها,
رنَّ جرُس البابِ ففزِعَ كثيْراً, وَركَض بوجلٍ إلَى غرفِته
ساحِباً جوازَ سفرِهـ ومفتاحَ سيَّارِته لكِنَّ
اقتَحامَ رجالِ الشُّرطَةِ للمكانِ وَ انتشارهُم
حُوَله وَ مُداهُمتهم لـ طابِقه العلويِّ, لَم تترُك لهُ
خيْاراً آخَر, رُغَم كُلِّ مقاوَماتِه ونداءَاتِه وَ مُوَجةِ غضبِه العارِم,
وشتائِمه الِّتي حاولَ مَعها التمَّلُص مِن أيدِي الشُّرطَة إلَّا أنُّه اقتِيدَ
إلَى إحَدى سيَّارِتهم ووجَدِت الأصفادُ
طريَقها إلَى يدِيه أخيْراً .
***
فِي مكانٍ آخَر, فِي منزلِ آسَرةِ وانسفِيد
لَم يكُن حالُ جُورَدان أفَضل !, إذْ راح يجُوب صالَة المنزلِ
مراراً وتكراراً مُحدِّثاً ذاتَه :
ذلِكَ الغبُّي مايْك,
أيَن الوثائِق ؟!, كيَف اختَفت مِنه فجأةً ؟!
ورفَع هاتِفُه للمرَّةِ العاشَرةِ رُبَّما,
دُوَن جَدْوَى, إذْ انتابَتُه شكُوكٌ شبُه مؤَّكدةٍ عَن
سَببِ عَدم ردِّ الأخيْرِ علَى مكالِمِته .
فضَرب بالهاتِف عرَض
الحائِط بكُلِّ ما أوتِيَ مِن قوَّةٍ. تاركَاً لـ آيريَك أنْ يرسُم علاماتِ
الدَّهشَةِ والفزَعِ إذْ اندفَع إلِيه قائِلاً :
- مابِكَ جُورَدان مالّذِي حصَل ؟!
قالَها وقَد أغلَق البآبَ مِن خلِفه,
إذْ كانَ قَد عادَ للتَّوِ مِن الخارِج, ما دفَع بـ الأخيْر
لـ أن يُنفِّسَ عَن غضبِه علِيه إذْ شدَّ ياقَة
قمِيصِه بقوٍّة وصَرخ بهِ :
- مابِك يآ أحمَق ؟!, تلُهو مَع
تلكَ الفتاةٍ وَ لا تعلُم شيْئاً عَمَّا يحُصْل !
- لمِاذا ماذا يحصُل ؟!
دفَع بِه جُورَدان بعِيداً,
ثُمَّ زفَر وَصَرخ بغَضب :
- الشُّرطَة, آكتشَفت مخابِيءَ المُخدِّراتِ
الَّتِي كُنَّا نمتِلُكَها, أفهِمت ؟! لَقد اكُتشِفَ أمرُنا
وذلِكَ الغبُّي ويْل قَد اعُتقِل والأبلُه مايْك لحِقَ بِه حسبما
يبدُو !
وصَرخ : أسمِعت !؟ , آستيَقظِ آيريْك !
لكِنَّ كُلَّ ذلِكَ جَعل الدَّم يتدَّفُق إلَى وجِه
آيريك, ليَس غضَباً بَل خُوفاً إذْ ركَض نحُوَ غرفِته
كما لُو كانَ يهرُب مِن تلَك الحقيْقةِ الصَّاعقَة.
أغلَق البابَ خلُفه وأخَذ يتنفُّس بسرعةٍ
شديْدَة, تماماً كـ جُوردان لُولا أنَّ الأخيَر لَم
يكُن يرتِعُد أبداً, بَل كانَ مُفعَماً بمشاعِر الغَضبِ والعزِم ,
العزِم علَى ألَّا يُهَزم أبداً .
حسناً آلفرِيد, هكَذا إذَن !
ترُيدُ تدِميري كمآ فَعل ريُو قبَلك !
لكِنَّ هذَا لَن يتكرَّرَ, لَن يتكرَّرْ !
جلَس فُوقَ الأريَكةِ ثُمَّ تنَّهَد بُعمقٍ ,
كأنَّما يُخرِجُ كُلَّ غضِبه لـ ينِتهي بهِ الأمُر أخيْراً
بـ رسمِ ابتِسامةٍ, أجَل جُورَدان رسَم ابتسامَة وسَط كُلِّ تَلك
الظُّرُوف .
فهُوَ ما يزالُ يمتلِكُ ورقةً أخيْرةً رابحَة!,
رفَع سمَّاعَة الهاتِف وأطلَق أمراً
بهَمس :
- اسمَع, تعرِفُ القبُو فِي مخزِن
الشَّرِكَة ؟!, احضرِ لِي شخْصاً إلَى هُناك
وحيَن جاءَ السؤالُ مِن الطَّرفِ
الآخرِ علَى السَّماعَةِ عَن الاسِم ,
ردَّدَ بـ ابتسامةٍ واثِقَة :
- ييرَما بآكسِتر !
وأغلَق هاتِفُه,
مُستِّعداً لـ أخذِ زماِم الأمُورِ
وخِطف نجاحِ خُطَّةِ آلفرِيد ,
فِي اللَّحَظاتِ الأخيَرة .
- ترَى مَن هُوَ الشَّخُص الّذِي
قابلُه آلفرِيد , رُغَم كُلِّ الأحداثِ الكثيْرِة مِن حُوله ؟!
- ماذَا عَن جُوردان, ألَن يستِسلِم
ماذَا ينوِي أنْ يفَعل ؟!
- آيريْك, كيَف سيتصرَّفَ ؟!,
وَهل سـ ينجُو مِن غمرَةِ كُلِّ هَذا ؟!
- توقَّعاتُكم بشأنِ ما سيحُصل لـ
ييرَما, هَل ينَجح جُورَدان فِي إحضارِها إلَى المكانِ
المطلُوبِ أمْ أنَّ أحداً سيتدخَّلُ لـ إيقافِ ذلِك ؟!
أشُعرِ بهآ, تمِتدُّ نحُوِي
ببُطءْ, كأيدٍ خفيَّةٍ فِي { ظلامٍ دامِس }
كـ إعصارٍ سريعٍ,
يُحيَل كُلَّ ما أمامُه دماراً !
أشُعر بهآ,
{ تلَك الحقائِقَ المؤلِمَة }
تسقُط أمامِي كـ أوراقِ الشَّجَر!